الصحراء 24 : متابعة
في شتنبر عام 1970، كان عمري ست سنوات، انضممت إلى المدرسة المولوية، وهي مؤسسة مقرها في مبنىمتواضع داخل القصر الملكي، أو ما يسمى المِشْوَر، لقد أنشأها محمد الخامس في عام 1942 لتقوم بتعليم ولديْه، فالتحق مولاي الحسن بالقسم السادس والتحق والدي بالقسم المتوسط، كان أسلاف محمد الخامس يرسلون أبناءهم إلى العلماء، فيتلقون التعليم الديني.
أما محمد الخامس، فكان قصده مزدوجا: أراد أن يؤسس فضاء للتميُّزالحديث، وفي الوقت عينه إحداث بوتقة يكون الأمراء فيها على اتصال مع أطفال من أصول مختلفة، بحيث تكون المدرسة المولوية عبارة عن صورة مصغرة للمغرب تعكس تنوعه العرقي والاجتماعي والإقليمي.
لقد كانت الفكرة جيدةمن جهة المبدأ، ولكنها للأسف كانت صعبة التنفيذ، صحيح أن الأطفال الذين تعلموا أولا مع عمي ووالدي، ثم الذين تعلموا مع وليّ العهد والأمير مولاي رشيد ومعي، قدموا إضافة حقيقية للأمراء من حيث الانفتاح على مختلف شرائح المجتمع المغربي.
ورغم ذلك، وبما أنهم انتُزعوا وهم صغار من وسطهم العائلي، فقد طغى على علاقتهم بالملكية طابع الخنوع والولاء المطلق لأنها أصبحت حصنهم الوحيد.
لقد قُطعت الوشائج مع عائلاتهم وفضاءاتهم الأصلية حتى أصبحت عودتهم إلى عالمهم القديم أمرا مستحيلا، فتحولوا إلى نوع من الإنكشارية في خدمة المخزن.
وفي النهاية، لميتحقق الهدف من إنشاء المدرسة المولوية، بل تفاقم الأمر عندما استفحلت فيها سلوكيات التذلل لدى بعض التلاميذ،والغطرسة لدى البعض الآخر، إن هذه المؤسسة عفا عليها الزمن وينبغي حذفها لأنها تفرز عكس أهدافها.
الأعسر
في السنوات الأولى من المعهد المولوي يستمر الأمراء في العيش مع والديهم، فتقوم الأم بواجبها الطبيعي في حضانة الصغار، وعندما يصلون إلى سن البلوغ ينتقلون إلى نظام الداخلية.
من جهتي، كنت في البداية سعيدا جدا للذهاب إلى المدرسة مع ابن عمي سيدي محمد، الذي يكبرني بعام واحد، والذي كنت أخُصُّه بمحبة بالغة، كان ذا إحساس مرهف ولُطف وطيبوبة.
كان هو من يعطف عليّ ويُهدئُ من روعي عندما تكون لديّ مشاكل مع والدي، كان الجو العامفي الصف تتقاسمه القيم والأعراف الغربية والإسلامية على السواء، كنا زهاء عشرة تلاميذ من جميع أنحاء المملكة، لباسنا غربي ونجلس على مقاعد كما هو الحال في المدارس التقليدية ، يجب أن ترفع يدك ليسمح لك المعلم بالكلام ، وعليك الوقوف لتجيب عن أسئلته، كان المعلم مكلفا بتعليمنا، وكذلك معاقبتنا الجسدية إن اقتضى الحال.
أما التدريس، فكان يعتمد أساسا على الحفظ والاستظهار، بالإضافة إلى برنامج الدروس، كنت ملزما أنا وسيدي محمد بتلقي التدريب العسكري يوميْ الثلاثاء والأحد، أما ركوب الخيل، فكنا نتدرب عليه يوميْ الأربعاء والسبت.
كانت دراستي كارثية في البداية أولا، أنا أعْسَر، ولكن في المدرسة المولوية حاولوا معي لكي أكتب باليد اليمنى.
منجهة أخرى، كانت أمي تضيف لي حصصا دراسية مع معلمين آخرين، بعد انتهائي من المدرسة، رغبة منها في تعزيزما تعلمته في الصباح، ولكن هذا التراكم أدى في الحقيقة إلى الاضطراب.
لقد كنت أتعلم اللغة الإنجليزية على يد أستاذة من المركز الثقافي البريطاني، جين جيليانJane Gillian ، كما كنت أتلقى دروسا تكميلية في العربية الفصحى على يد الأستاذ بادا منصور.
لم ألبث في المدرسة المولوية أكثر من عامين لأن الوضع أصبح لا يطاق: مهما بذلنا من جهود، فإن ترتيب النقط كان غير قابل للتغيير: الرتبة الأولى دائما للأمير سيدي محمد، والثانية لشقيقته للامريم (كان قسمنا مختلطا قبل فتح قسم خاص بالبنات)، وأنا في المرتبة الثالثة دائما! أما الرابع، فليذهب إلى الجحيم مهما جدَّ واجتهد، فلن يراوح مكانه.
إنها المهزلة وما أدراك ما المهزلة، أما في لعبة كرة القدم، وبما أن الأميرة لا تلعب، كنت أنا عضوا في فريق ، وسيدي محمد في الفريق الآخر، والنتيجة أن فريقنا لم يفز أبدا بأي مباراة، والمنطق عينه يتكرر عندما كنا نمارس الرماية، حيث أحصل على المرتبة الثانية سواء أصبتُ الهدف أم أخطأتُه.
زيارة الملك
ذات يوم، زارنا الحسن الثاني فجأة في ميدان الرماية، بعدما أخبره بهذه المهزلة الجنرال المذبوح، قائد الحرس الملكي وأحد مخططي انقلاب عام 1971.
ذلك أن المذبوح اكتشف بنفسه عدة مرات منظومة “الغش” في المسابقات، والتي تضمن انتصار ولي العهد، عبر العبث بالأهداف والتلاعب بالبنادق.
كان الجنرال قد هدد فعلا بفرض عقوبات وقام بتوقيف بعض المسؤولين عن هذا الغباء.
عندما لاحظ أنه فشل في إصلاح الأمر فاتح الملك في الموضوع، وقد تأكد الحسن الثاني بنفسه أن عدسة المصوِّب في بندقيتي طرأ عليها خلل مقصود لكي يستحيل عليَّ أن أتفوق على ابنه، فانتابه غضب شديد.
ومع ذلك، لم يستطع إصلاح الوضع، وكأن منظومة الغش والفساد التي يحركها ميل طبيعي لهاجس الولاء مهما كان الثمن، قد تغلبت على إرادة الملك بنفسه.
في الواقع، لم يكن الحسن الثاني يستسيغ أن يتألق أي شخص بحضوره، كان مغرورا ويزعم أن له تميزا مطلقا، وربما نفحة من قبس إلهي.
كان يرفض بشدة أن يوجد له نظير من النظراء كيفما كانت علاقته به، ولو كان له أخا أوابنا.
كان الحسن الثاني لا يحب إلا نفسه، ومن فرط نرجسيته واعتزازه بنفسه لا يتقبل والدي كأخ له ولا ابنَه كولي عهده.
لقد كان والدي يشكل خصما محتملا لأن العديد من الأشخاص كانوا يعتبرونه بديلا ممكنا عن أخيه ، الذي يجسد في نظرهم جناح المخزن الرجعي : لقد كانت تصرفاته تبدو وكأنها تنتمي إلى العصور الغابرة ، وخاصة عشقه لمظاهر الأبهة والعظمة وإصراره على إذلال غيره.
لقد ولدت بالرباط يوم 4 مارس 1964 ، في مستشفى ابن سينا، في غرفة أعِدت خصيصا لأعضاء العائلة المالكة ، أي في انسجام مع التقاليد المخزنية التي رغم إقرارها بالعلاقة البيولوجية بين الطفل وأمه، كانت تصر على أن تكون تربية الأطفال شأن العائلة المالكة كلها.
كان القصر إذن، لا يتورع في الاستحواذ على دور الوالدين، ولذلك ، فإني في أولا لأمر تربيتُ في أحضان مربيات مغربيات مكلفات بتلقيني القيم التقليدية والتركيز على الجانب الديني، ثم جاء دورالمربية الإسبانية سيلسا هيرنانديز Selsa Hernandez، التي تعلقتُ بها تعلقا شديدا كالغريق بحبل النجاة.
كانت والدتي تثق فيها ثقة كاملة، وكلفَتها من بعدي بتربية أختي أيضا، لقد كان فضلها علينا كبيرا، خصوصا أنها علمتنا الانضباط والدقة.
لقد كان وجود المربيات الغربيات مؤسسة حقيقية لدى العلويين، على غرار الكثير من المسلمين، كنا نعيش مهووسين بهذا العالم الغربي الذي يتفوق علينا ويهيمن علينا، والذي نحلم بأن ننتزع منه يوما قوته السرية.
ولذلك، كان الاعتقاد سائدا أنه لا بد للطفل أن ينغمس في الثقافة الغربية لكيلا تبقى أرض الإسلام متخلفة إلى الأبد.
اختطاف المهدي
كان سنِّي أقل من عامين لما اختُطف المعارض المهدي بنبركة يوم 29 أكتوبر1965 في باريس أمام مقهى “ليب” في شارع سان جيرمان.
منذ تلك اللحظة، ومهما اختلفت التقييمات حول الرجل السياسي، أصبح المهدي بنبركة في التراث المغربي، هو ذلك الغائب الأكثر حضورا، وهو تلك الروح، وذلك الجسد اللذان انتُزعا من الوطن انتزاعا، وهو لايزال حتى الآن، ذلك الشبح المزعج بالنسبة إلى رفاقه في الكفاح، وبالنسبة إلى الملكية على السواء.
ذلك أن اختفاءه الغامض لازال يلاحق المخيلة الجماعية، وجريمة الدولة التي راح ضحيتها لا تسمح بحال من الأحوال أن تُطوَى صفحة الخصومات التاريخية بسهولة.
إن كل ما يمس الرجل يشكل موضوع نقاش، بما في ذلك حينما قيل عنه فيوقت لاحق إنه تعاون يوما ما مع المخابرات التشيكوسلوفاكية.
وحتى لو افترضنا جدلا صحة هذه الرواية، فما هو المشكل وما وجه الغرابة في سياق الحرب الباردة، حيث كان بنبركة قد اختار معسكره علانية.
ولماذا سيخفيه، ففي ظلعا لم يتقاسمه قطب غربي وآخر شرقي، لا يُعد التعاون مع المخابرات التشيكوسلوفاكية أمرا مستنكرا بالنسبة إلى رجل له توجه ماركسي، تماما كما لم يكن الحسن الثاني يتردد في استعمال جميع الوسائل لمحاربة ألدِّ أعدائه.
عندما كنت طفلا كنا نتجنب الحديث عن بنبركة مع والدي وعمِّي، ولكنني كنت أسترق السمع وراء الأبواب، لقد سمعت أبي يقول إنه لا يخامره شك في أن بنبركة قد قُتل على يد المخابرات المغربية.
وبشكل أكثر تحديدا، لقد نشأتُ وفي ذهني رواية تداولتْها همسا أوساط الدائرة الأولى من السلطة، ” لقد أوتِي برأس بنبركة وعُرض على أنظار الحسن الثاني “، لقد سمعت ذلك مباشرة وبشكل متكرر من عند اثنين أو ثلاثة من أصدقاء أبي المقربين، ومصدرهم ما رواه لوالدي الدكتور كليريه Cléret، الذي كان طبيبا شخصيا لمحمد الخامس، ثم الحسن الثاني.
اليوم، يوافق الجميع على أن اختطاف بنبركة كان في الأساس شأنا مغربيا، لكن ظروف وملابسات وفاته لازالت غيرمحددة.
هل كان حادثا غير مقصود؟ هل أفرط المجرمون الفرنسيون أو المغاربة الذي كُلفوا بمهمة اختطاف الرجل لإرجاعه للمغرب في استعمال العنف فحدثت الوفاة؟ أم إن الاغتيال كان هو الهدف؟ إن هذه الشكوك تخفف قليلا من مسؤولية الحسن الثاني.
ولكن إذا كانت حكاية الرأس المقطوعة حقيقية، فإن مسؤولية الملك تصبح كاملة لأن الرغبة في رؤية رأس الضحية يعني أن الجريمة كانت مدبرة.
وبناء على معرفتي بالعلاقة التي تربط الدكتور كليريه مع عائلتي، لا أرى أي مبرر لكي يختلق حكاية مرعبة ويرويها لأبي إذا لم تكن صحيحة.
كان الحسن الثاني يتحاشى هذا الموضوع، لازلت أتذكر نقاشا متوترا عندما شاهدنا برفقته شريط “مغامرات الحاخام يعقوب “Les Aventures de Rabbi Jacob”، حيث لعب دور البطل الممثل الفرنسي الشهير لويسديفونيس Louis de Funès، لقد كنت يافعا آنذاك وأتكلم بعفوية، فقلت معلقا على الشريط ” هذا شريط عن المغرب!” فاستشاط الملك غضبا وقال : ” لا، ليس هناك علاقة له مع المغرب، وقائع هذا الفيلم تدور في الجزائر، ثم إن المغرب ليس لديه نفط !” .
والواقع أن إحدى الشخصيات في قصة الشريط مقتبسة من بنبركة ، ولكن الحسن الثاني انزعج من إفصاحي عن المقارنة.
ما مدى مسؤولية الملك في قضية بنبركة ؟ إن قصة الرأس المقطوعة محرجة جدا، ولكن الجواب يبقى متروكا للمؤرخين.
في انتظار ذلك، فإن الملف يمكنه العودة للواجهة بفضل مَن لازال على قيد الحياة مِن الشهود في المغرب، أو الوثائق التي لاتزال تصنَّف ضمن ” أسرار الدفاع” في فرنسا.
أنا لدي الحدس بأن هذا الغموض سوف يتبدد يوما في المستقبل، ولكن، ربما، في ظل اللامبالاة ، لأنه مع تعاقب الأجيال سيتضاءل الاهتمام بشهيد اليسار المغربي.
في شتنبر عام 1970، كان عمري ست سنوات، انضممت إلى المدرسة المولوية، وهي مؤسسة مقرها في مبنىمتواضع داخل القصر الملكي، أو ما يسمى المِشْوَر. لقد أنشأها محمد الخامس في عام 1942 لتقوم بتعليم ولديْه،فالتحق مولاي الحسن بالقسم السادس والتحق والدي بالقسم المتوسط. كان أسلاف محمد الخامس يرسلون أبناءهمإلى العلماء، فيتلقون التعليم الديني. أما محمد الخامس، فكان قصده مزدوجا: أراد أن يؤسس فضاء للتميُّزالحديث، وفي الوقت عينه إحداث بوتقة يكون الأمراء فيها على اتصال مع أطفال من أصول مختلفة، بحيث تكونالمدرسة المولوية عبارة عن صورة مصغرة للمغرب تعكس تنوعه العرقي والاجتماعي والإقليمي. لقد كانت الفكرة جيدةمن جهة المبدأ، ولكنها للأسف كانت صعبة التنفيذ. صحيح أن الأطفال الذين تعلموا أولا مع عمي ووالدي، ثم الذينتعلموا مع وليّ العهد والأمير مولاي رشيد ومعي، قدموا إضافة حقيقية للأمراء من حيث الانفتاح على مختلف شرائحالمجتمع المغربي. ورغم ذلك، وبما أنهم انتُزعوا وهم صغار من وسطهم العائلي، فقد طغى على علاقتهم بالملكية طابعالخنوع والولاء المطلق لأنها أصبحت حصنهم الوحيد. لقد قُطعت الوشائج مع عائلاتهم وفضاءاتهم الأصلية حتىأصبحت عودتهم إلى عالمهم القديم أمرا مستحيلا، فتحولوا إلى نوع من الإنكشارية في خدمة المخزن. وفي النهاية، لميتحقق الهدف من إنشاء المدرسة المولوية، بل تفاقم الأمر عندما استفحلت فيها سلوكيات التذلل لدى بعض التلاميذ،والغطرسة لدى البعض الآخر. إن هذه المؤسسة عفا عليها الزمن وينبغي حذفها لأنها تفرز عكس أهدافها.
الأعسر
في السنوات الأولى من المعهد المولوي يستمر الأمراء في العيش مع والديهم، فتقوم الأم بواجبها الطبيعي في حضانةالصغار، وعندما يصلون إلى سن البلوغ ينتقلون إلى نظام الداخلية. من جهتي، كنت في البداية سعيدا جدا للذهابإلى المدرسة مع ابن عمي سيدي محمد، الذي يكبرني بعام واحد، والذي كنت أخُصُّه بمحبة بالغة. كان ذا إحساسمرهف ولُطف وطيبوبة. كان هو من يعطف عليّ ويُهدئُ من روعي عندما تكون لديّ مشاكل مع والدي. كان الجو العامفي الصف تتقاسمه القيم والأعراف الغربية والإسلامية على السواء. كنا زهاء عشرة تلاميذ من جميع أنحاء المملكة،لباسنا غربي ونجلس على مقاعد كما هو الحال في المدارس التقليدية. يجب أن ترفع يدك ليسمح لك المعلم بالكلام،وعليك الوقوف لتجيب عن أسئلته. كان المعلم مكلفا بتعليمنا، وكذلك معاقبتنا الجسدية إن اقتضى الحال. أماالتدريس، فكان يعتمد أساسا على الحفظ والاستظهار. بالإضافة إلى برنامج الدروس، كنت ملزما أنا وسيدي محمدبتلقي التدريب العسكري يوميْ الثلاثاء والأحد. أما ركوب الخيل، فكنا نتدرب عليه يوميْ الأربعاء والسبت.
كانت دراستي كارثية في البداية. أولا، أنا أعْسَر، ولكن في المدرسة المولوية حاولوا معي لكي أكتب باليد اليمنى. منجهة أخرى، كانت أمي تضيف لي حصصا دراسية مع معلمين آخرين، بعد انتهائي من المدرسة، رغبة منها في تعزيزما تعلمته في الصباح، ولكن هذا التراكم أدى في الحقيقة إلى الاضطراب. لقد كنت أتعلم اللغة الإنجليزية على يدأستاذة من المركز الثقافي البريطاني، جين جيليانJane Gillian، كما كنت أتلقى دروسا تكميلية في العربيةالفصحى على يد الأستاذ بادا منصور. لم ألبث في المدرسة المولوية أكثر من عامين لأن الوضع أصبح لا يطاق: مهمابذلنا من جهود، فإن ترتيب النقط كان غير قابل للتغيير: الرتبة الأولى دائما للأمير سيدي محمد، والثانية لشقيقتهللامريم (كان قسمنا مختلطا قبل فتح قسم خاص بالبنات)، وأنا في المرتبة الثالثة دائما! أما الرابع، فليذهب إلىالجحيم مهما جدَّ واجتهد، فلن يراوح مكانه. إنها المهزلة وما أدراك ما المهزلة. أما في لعبة كرة القدم، وبما أن الأميرةلا تلعب، كنت أنا عضوا في فريق وسيدي محمد في الفريق الآخر، والنتيجة أن فريقنا لم يفز أبدا بأي مباراة، والمنطقعينه يتكرر عندما كنا نمارس الرماية، حيث أحصل على المرتبة الثانية سواء أصبتُ الهدف أم أخطأتُه.
زيارة الملك
ذات يوم، زارنا الحسن الثاني فجأة في ميدان الرماية، بعدما أخبره بهذه المهزلة الجنرال المذبوح، قائد الحرس الملكيوأحد مخططي انقلاب عام 1971. ذلك أن المذبوح اكتشف بنفسه عدة مرات منظومة “الغش” في المسابقات، والتيتضمن انتصار ولي العهد، عبر العبث بالأهداف والتلاعب بالبنادق. كان الجنرال قد هدد فعلا بفرض عقوبات وقامبتوقيف بعض المسؤولين عن هذا الغباء. عندما لاحظ أنه فشل في إصلاح الأمر فاتح الملك في الموضوع، وقد تأكدالحسن الثاني بنفسه أن عدسة المصوِّب في بندقيتي طرأ عليها خلل مقصود لكي يستحيل عليَّ أن أتفوق على ابنه،فانتابه غضب شديد. ومع ذلك، لم يستطع إصلاح الوضع، وكأن منظومة الغش والفساد التي يحركها ميل طبيعيلهاجس الولاء مهما كان الثمن، قد تغلبت على إرادة الملك بنفسه.
في الواقع، لم يكن الحسن الثاني يستسيغ أن يتألق أي شخص بحضوره. كان مغرورا ويزعم أن له تميزا مطلقا،وربما نفحة من قبس إلهي. كان يرفض بشدة أن يوجد له نظير من النظراء كيفما كانت علاقته به، ولو كان له أخا أوابنا. كان الحسن الثاني لا يحب إلا نفسه، ومن فرط نرجسيته واعتزازه بنفسه لا يتقبل والدي كأخ له ولا ابنَه كوليعهده. لقد كان والدي يشكل خصما محتملا لأن العديد من الأشخاص كانوا يعتبرونه بديلا ممكنا عن أخيه، الذييجسد في نظرهم جناح المخزن الرجعي: لقد كانت تصرفاته تبدو وكأنها تنتمي إلى العصور الغابرة، وخاصة عشقهلمظاهر الأبهة والعظمة وإصراره على إذلال غيره.
لقد ولدت بالرباط يوم 4 مارس 1964 في مستشفى ابن سينا، في غرفة أعِدت خصيصا لأعضاء العائلة المالكة، أيفي انسجام مع التقاليد المخزنية التي رغم إقرارها بالعلاقة البيولوجية بين الطفل وأمه، كانت تصر على أن تكون تربيةالأطفال شأن العائلة المالكة كلها. كان القصر إذن، لا يتورع في الاستحواذ على دور الوالدين، ولذلك، فإني في أولالأمر تربيتُ في أحضان مربيات مغربيات مكلفات بتلقيني القيم التقليدية والتركيز على الجانب الديني، ثم جاء دورالمربية الإسبانية سيلسا هيرنانديز Selsa Hernandez، التي تعلقتُ بها تعلقا شديدا كالغريق بحبل النجاة. كانت والدتي تثق فيها ثقة كاملة، وكلفَتها من بعدي بتربية أختي أيضا. لقد كان فضلها علينا كبيرا، خصوصا أنهاعلمتنا الانضباط والدقة.
لقد كان وجود المربيات الغربيات مؤسسة حقيقية لدى العلويين. على غرار الكثير من المسلمين، كنا نعيش مهووسينبهذا العالم الغربي الذي يتفوق علينا ويهيمن علينا، والذي نحلم بأن ننتزع منه يوما قوته السرية. ولذلك، كان الاعتقادسائدا أنه لا بد للطفل أن ينغمس في الثقافة الغربية لكيلا تبقى أرض الإسلام متخلفة إلى الأبد.
اختطاف المهدي
كان سنِّي أقل من عامين لما اختُطف المعارض المهدي بنبركة يوم 29 أكتوبر1965 في باريس أمام مقهى “ليب” فيشارع سان جيرمان. منذ تلك اللحظة، ومهما اختلفت التقييمات حول الرجل السياسي، أصبح المهدي بنبركة فيالتراث المغربي، هو ذلك الغائب الأكثر حضورا، وهو تلك الروح، وذلك الجسد اللذان انتُزعا من الوطن انتزاعا، وهولايزال حتى الآن، ذلك الشبح المزعج بالنسبة إلى رفاقه في الكفاح، وبالنسبة إلى الملكية على السواء. ذلك أن اختفاءهالغامض لازال يلاحق المخيلة الجماعية، وجريمة الدولة التي راح ضحيتها لا تسمح بحال من الأحوال أن تُطوَىصفحة الخصومات التاريخية بسهولة. إن كل ما يمس الرجل يشكل موضوع نقاش، بما في ذلك حينما قيل عنه فيوقت لاحق إنه تعاون يوما ما مع المخابرات التشيكوسلوفاكية. وحتى لو افترضنا جدلا صحة هذه الرواية، فما هوالمشكل وما وجه الغرابة في سياق الحرب الباردة، حيث كان بنبركة قد اختار معسكره علانية. ولماذا سيخفيه، ففي ظلعالم يتقاسمه قطب غربي وآخر شرقي، لا يُعد التعاون مع المخابرات التشيكوسلوفاكية أمرا مستنكرا بالنسبة إلىرجل له توجه ماركسي، تماما كما لم يكن الحسن الثاني يتردد في استعمال جميع الوسائل لمحاربة ألدِّ أعدائه.
عندما كنت طفلا كنا نتجنب الحديث عن بنبركة مع والدي وعمِّي، ولكنني كنت أسترق السمع وراء الأبواب. لقد سمعتأبي يقول إنه لا يخامره شك في أن بنبركة قد قُتل على يد المخابرات المغربية. وبشكل أكثر تحديدا، لقد نشأتُ وفيذهني رواية تداولتْها همسا أوساط الدائرة الأولى من السلطة. “لقد أوتِي برأس بنبركة وعُرض على أنظار الحسنالثاني“. لقد سمعت ذلك مباشرة وبشكل متكرر من عند اثنين أو ثلاثة من أصدقاء أبي المقربين، ومصدرهم ما رواهلوالدي الدكتور كليريه Cléret، الذي كان طبيبا شخصيا لمحمد الخامس، ثم الحسن الثاني.
اليوم، يوافق الجميع على أن اختطاف بنبركة كان في الأساس شأنا مغربيا، لكن ظروف وملابسات وفاته لازالت غيرمحددة. هل كان حادثا غير مقصود؟ هل أفرط المجرمون الفرنسيون أو المغاربة الذي كُلفوا بمهمة اختطاف الرجللإرجاعه للمغرب في استعمال العنف فحدثت الوفاة؟ أم إن الاغتيال كان هو الهدف؟ إن هذه الشكوك تخفف قليلا منمسؤولية الحسن الثاني. ولكن إذا كانت حكاية الرأس المقطوعة حقيقية، فإن مسؤولية الملك تصبح كاملة لأن الرغبةفي رؤية رأس الضحية يعني أن الجريمة كانت مدبرة. وبناء على معرفتي بالعلاقة التي تربط الدكتور كليريه مععائلتي، لا أرى أي مبرر لكي يختلق حكاية مرعبة ويرويها لأبي إذا لم تكن صحيحة.
كان الحسن الثاني يتحاشى هذا الموضوع. لازلت أتذكر نقاشا متوترا عندما شاهدنا برفقته شريط “مغامراتالحاخام يعقوب “Les Aventures de Rabbi Jacob”، حيث لعب دور البطل الممثل الفرنسي الشهير لويسديفونيس Louis de Funès، لقد كنت يافعا آنذاك وأتكلم بعفوية، فقلت معلقا على الشريط “هذا شريط عنالمغرب!” فاستشاط الملك غضبا وقال: “لا، ليس هناك علاقة له مع المغرب. وقائع هذا الفيلم تدور في الجزائر، ثم إنالمغرب ليس لديه نفط!” والواقع أن إحدى الشخصيات في قصة الشريط مقتبسة من بنبركة، ولكن الحسن الثانيانزعج من إفصاحي عن المقارنة.
ما مدى مسؤولية الملك في قضية بنبركة؟ إن قصة الرأس المقطوعة محرجة جدا، ولكن الجواب يبقى متروكا للمؤرخين. في انتظار ذلك، فإن الملف يمكنه العودة للواجهة بفضل مَن لازال على قيد الحياة مِن الشهود في المغرب، أو الوثائقالتي لاتزال تصنَّف ضمن “أسرار الدفاع” في فرنسا. أنا لدي الحدس بأن هذا الغموض سوف يتبدد يوما فيالمستقبل، ولكن، ربما، في ظل اللامبالاة، لأنه مع تعاقب الأجيال سيتضاءل الاهتمام بشهيد اليسار المغربي.