afterheader desktop

afterheader desktop

after Header Mobile

after Header Mobile

«إرهاب» اليوتيوب


 ما تقتطعه «مقصات» الشاشات الصغيرة من «افلام» الواقع الحي، نتيجة عنفه غير المحتمل، يشاهده الجمهور على الانترنت. وُجد «اليوتيوب» لئلا يُخفي شيئاً، ليكشف كل ما يمكن كشفه. ومثلما كان سلاح ثوار الربيع العربي وأداتهم في النضال والتآزر، أضحى في أيدي الارهابيين، على اختلاف مشاربهم، سلاحاً أشد مضاءً من السلاح نفسه. الارهابي الذي يقطع رأس الرهينة يرتكب جريمة. أما الذي يصورها فيرتكب جريمتين، بصفته اولاً قاتلاً مجازياً يشارك زميله فعل الذبح ويوفر له غطاء «معنوياً»، ثم بصفته شاهداً يصور المشهد العنيف بهدوء ومتعة. الذابح «يتلذذ» مرة واحدة عندما يقطع رأس الرهينة، أما المصور فمرتين.

لم استطع ان اشاهد منظر رجم المرأة السورية «الزانية» كاملاً على «اليوتيوب»، توقفت، ثم ألزمت نفسي على مشاهدته كله، معاقبةً لنفسي ربما أو رغبةً في حال «تطهيرية» وفق المقولة المسرحية الاغريقية. ظلوا يرجمونها حتى آخر نفَس. انهالت حجارة الارهابيين القتلة على جسدها الضئيل، على مرأى من أبيها الذي نالوا رضاه قبل الرجم. ابنته زانية ويجب ان تُرجم عملاً بأحكامهم. منظرها عندما راحت تتألم وتتلوى تحت وابل الحجارة أكثر من مأسوي. تنظر الى هذه البريئة تُحتضر تحت الرجم ببطء، تلفظ انفاسها نفساً نفساً، فتشعر ان عطلاً طرأ على نظام الكينونة. هؤلاء ليسوا بشراً، وهذه ليست سوى أضحية تقدم على مذبح.

هذا ما يمكن ان نسميه «إرهاب» اليوتيوب، إرهاب الارهابيين عبر اليوتيوب. إرهاب اكثر من استعراضي. لا يهم القاتل هنا ان يبدو قاتلاً، فهو يعلم جيداً انه قاتل، «شرعاً» كما يُهيأ له، أو خارج الشرع. هذا إرهاب القاتل عندما يظن نفسه يملك سلطة ما ورائية تخوّله إنهاء حياة شخص علانية، امام الكاميرا، في لقطة مهيّأة لتعبر حدود الجغرافيا وتصل الى البشر، مواطني العالم. بعد انتشار اليوتيوب لم يعد الارهابيون يقتلون سراً، لم يعودوا قادرين على ان يقتلوا سراً. إنهم أنصاف آلهة، يحلّون العقاب ساعة يشاؤون وكيفما شاؤوا على مرأى الجميع.

ما أجمل اليوتيوب عندما كان وسيلة الثوار العرب الأنقياء في فضح الأعمال الشنيعة التي ارتكبتها الانظمة الديكتاتورية. كم حملت الينا افلام الواقع تلك، من صور حية التقطها شبان بهواتفهم الموبايل، من قلب الميادين والساحات، من قلب التظاهرات وحملات الاحتجاج والمواجهة. ما كان اجمل اليوتيوب عندما كشف المذابح الرهيبة التي ارتكبها النظام البعثي السوري والخراب الذي أحدثته آلته العسكرية في المدن والقرى والأحياء. ما كان امضى سلاح اليوتيوب عندما نشر صور الاطفال السوريين الذين أبادتهم كيماويات النظام. حوّل اليوتيوب الهواتف الخليوية من ادوات للتهاتف الى كاميرات لتصوير الجرائم وفضح المجرمين.

في كتابه «على كل طرف ان يلعب: القدرة على التنظيم من دون تنظيم» يرى الكاتب الاميركي كلاي شيركي ان الانترنت – وتوابعه – استطاع ان يطور فكرة الديموقراطية، لكنّ التجربة أثبتت ان الانظمة المستبدة عرفت كيف تستغل هذا «السلاح» لتهدد المنشقين والمعارضين. ويقول إن الحركات الاصولية المتطرفة جعلت من الانترنت اداة اندفاع و «نضال».

إنقضّت الانظمة الديكتاتورية والاستبدادية والحركات الاصولية والظلامية على عالم الانترنت وأخضعته لمصالحها موظِّفة إياه وما يتيح من إمكانات، لأغراض تخدمها سياسياً وأيديولوجياً وأمنياً واستخباراتياً… وبدا واضحاً أخيراً تركيز «داعش» و «النصرة» على الانترنت واليوتيوب لترويج فكرهما المتطرف وجذب المتطوعين وتجييش الجماعات وتزوير الحقائق والوثائق. أدركت الحركات الاصولية مثلها مثل الانظمة المستبدة أن ما من حرب يمكن ان تقوم اليوم خارج فضاء الانترنت. فإذا بها تجعل من هذه الوسائل شيطانها الالكتروني.

شوّه الاصوليون اليوتيوب عندما أدرجوه في خانة الارهاب والعنف. أفقدوه هالته التي كثيراً ما سحرت جماهيره. أسقطوا عنه غاياته النبيلة بصفته طريقة من طرق التواصل العام، الحديث وغير المألوف. وهذا ما كان اكده ثوار الربيع العربي حين استخدموه سلاحاً ماضياً ضد انظمة الإجرام والقتل والهتك. أكد هؤلاء الثوار كيف يمكن ان يكون لهذه التكنولوجيا الحديثة بعد انساني وهدف مثالي، بخاصة عندما ادخلوه في سياق ثورتهم التي لم تقم إلا من اجل الانسان، مواطناً وجماعة.

كم بدت بشاعة اليوتيوب رهيبة عندما وقع في ايدي جماعات الارهاب والتكفير. كم بدا ارهابه شديداً عندما اصبح مرآة لهؤلاء البرابرة، الطالعين من دياجير التاريخ.

 

– بقلم عبده وازن

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد