الصحراء 24 : بقلم / صالح البشرة
كأي وافد جديد وكمهاجر يحاول إثبات ذاته في محيطه ويتعرف على خصوصيات مجتمعه، يحقق بعض المكاسب ويتعلم القوانين والعاداتـ قرأت الكثير عن النظام الأمريكي وثقافته مجتمعه، بطبيعة الحال، كان أول ما شد اهتمامي آنذاك هو الحقوق والديمقراطية التي كنا نقرأ عنها فقط في الكتب ونحن طلبة في مجتمعاتنا الأصلية، كل هذا ولد لدي اهتماما خاصا بالكونغرس الأمريكي كونه أعلى سلطة تشريعية ومقر صناعة القرار المحلي والدولي.
الأمر الثاني الذي جعلني أهتم به هو لمعرفة كيف يتمكن الأمريكيون من تصريف وتدبير أمورهم على الرغم من تعدد الولايات الأمريكية وتعدد الأعراق فيها. أما السبب الثالث فكان أني كنت أقرأ الكثير عن معارك جماعات الضغط وشركات اللوبيات التي تنشط كثيرا هناك خصوصا تلك التي كنا ولا زلنا نسمع عنها والتي تدور رحى معاركها بين الدول الأجنبية لكسب ود ممثلي الشعب الأمريكي وللفوز برضاهم وعطفهم.
وكان أن تحقق حلمي أن أكون جزءا من هذا كله، وأن أعاين كل شيء عن قرب، عندما التحقت في صيف 2005 بالكونغرس الأمريكي كمتدرب لدى عضو الكونغرس المحترم عن ولايات بنسلفانيا، السيد: جوزيف بيتز « Joseph Pitts » أو “جو” « Joe » كما كان يلقبه الجميع.
كنت آنذاك قد أكملت دراستي العليا متحصلا على الماجستير في الإدارة إلى جانب شهادة عليا أخرى في إدارة المنظمات الغير ربحية لدى جامعة شمال كنتاكي Northern Kentucky University، وودت أن أمزج النظري بالتطبيقي، فكان الكونغرس الأمريكي وجهتي التالية.
كنت مسلحا فقط بدبلوماتي وتجربتي البسيطة وأملي في التعلم إلى جاني إرادتي وتصميمي على سبر أغوار هذه المؤسسة الأمريكية العتيدة.
كنت أتوفر أيضا على بعض رسائل التوصية من أساتذتي الذين شجعوني كثيرا وساندوني في مسعاي. أول شيء كان علي فعله هو التقدم شخصيا بطلب الانضمام كمتدرب بدون أجرة مدفوعة إلى مكتب عضو الكونغرس « congressman » وبعد ذلك، تم استدعائي من طرف مديرة مكتبه التي رحبت بي وسألتني عن بعض التفاصيل المتعلقة بي وبملفي.
بعد ذلك دردشنا قليلا، وأخذتني في جولة قصيرة لأتعرف على باقي الموظفين وخصوصا الموظفة “كارين فينكلر” Karien Finkler التي كانت على معرفة وثيقة بالصحراء وملف النزاع.
رحبت بي كثيرا، وتمنى لي الجميع عملا ناجحا معهم، عندها عرفت أنه تم قبولي وأنني قد انضممت إلى فريق المتدربين.
كان الأمر شيقا وممتعا بالنسبة لي، ولم أكن أصدق أنه تم قبولي وأنني سأبتدئ العمل في أكبر مؤسسة ديمقراطية في أمريكا وفي العالم.
ولكن قبل أن أسترسل في سرد الأحداث، دعوني أحدثكم قليلا عن الكونغرس الأمريكي، تشكيلته وكيفية اشتغاله:
ينقسم الكونغرس الأمريكي، على غرار العديد من المجالس حول العالم، إلى غرفتين: غرفة مجلس النواب و غرفة مجلس الشيوخ. انعقد أول مجلس للكونغرس الأمريكي يوم 04 مارس في سنة 1789.
خلال السنوات الأولى الاثنتان لرئاسة الرئيس الأمريكي آنذاك: جورج واشنطن. كان مكان انعقاد الجلسات بداية الأمر في نيويورك، وبعد ذلك انتقلت الاجتماعات إلى مدينة فيلادلفيا بولاية نيوجورزي.
بعد بناية مقر الكونغرس الأمريكي على قطعة من الأرض مهداة من طرف ولاية ميريلاند « Maryland »، بنيت واشنطن كعاصمة للولايات المتحدة الأمريكية، واحتضنت مقر الكونغرس الأمريكي الذي يربض شامخا في مركزها.
مجلس الشيوخ يتكون من 100 عضو، إثنان عن كل ولاية، ويتم انتخاب السيناتور لولاية تدوم ست سنوات كل مرة.
أما مجلس النواب فإنه يتكون من 435 نائبا، عدد النواب يتغير طبقا لعدد الساكنة في كل ولاية. ولكن كل ولاية يجب أن تتوفر على الأقل على نائب. يجب على السيناتور أن يكون فوق 30 سنة من عمره وأن يكون مواطنا أمريكيا وسكن بالولايات المتحدة الأمريكية على الأقل تسع سنوات، فحين على النائب أن يكون فوق 25 سنة من عمره وأن يكون مواطنا أمريكيا، وسكن على الأقل مدة سبع سنوات بأمريكا.
بالإضافة إلى هؤلاء النواب والأعضاء فهناك مفوضون مقيمون ويحضرون جلسات ونقاشات الكونغرس الأمريكي، ويتعلق الأمر بمفوضين ممثلين ونواب يمثلون كلا من : صاموا الأمريكية American Samoa، واشنطن العاصمة (مقاطعة كولومبيا District of Columbia)، كوام « Guam »، والجزر العذراء « Virgin Islands ». يمكن لهؤلاء المبعوثين والمفوضين أن يحضروا الجلسات ويناقشوا، ولكن لا يمكن لهم التصويت، ويتم انتخابهم لولاية تدوم سنتين كل مرة يتم انتخابهم فيها.
إلا أنه يحق لهم التصويت داخل اللجان التابعة لمجلس النواب أو مجلس الشيوخ، ولكن بشرط أن يكونوا أعضاء في هذه اللجان. يترأس نائب الرئيس الأمريكي مجلس الشيوخ، في حين يترأس مجلس النواب نائبا يتم انتخابه من لدن أعضاء المجلس، تتولى اللجان تحضير واعتبار كافة القوانين والتشريعات في كلا الغرفتين، فهناك ستة عشر لجنة بمجلس الشيوخ وتسعة عشر بمجلس النواب كما أن هناك بعض اللجان التي تضم أعضاء من كلا الجانبين.
ولكن لكل مجلس الحق في تعيين لجنة خاصة للاستقصاء والبحث، ولكي لا أطيل عليكم بهذه التفاصيل المملة، دعوني أرجع بكم إلى تجربتي هناك، وأحكي لكم ما رأيته وعايشته وعملت فيه. كان لزاما علي أن أرتدي الهندام الأنيق أثناء العمل بما في ذلك ربطة العنق التي كنت لا أطيقها.
كما أن كان لزاما علي أن ألتزم بأوقات العمل. بعض هذه الأوقات تزامن مع رمضان شهر الصيام، إلا أنني اجتزت تلك المرحلة بسلام. وكان على كل من يشتغل هناك أن يظهر في كل الأوقات “البادج” الخاص به للدخول والعمل.
كل عضو أو سيناتور أمريكي لديه طاقم العاملين الخاص به والذين يعملون في مكتبه: فهناك رئيس الموظفين Chief of staff ومدير المكتب بالإضافة إلى المكلفين بالمراسلة والإعلام، شؤون الهجرة ومصالح الساكنة، الاستخبارات والدفاع والجيش، والشؤون الأخرى. …الخ.
كان مكتب عضو الكونغرس « Congressman » الذي اشتغل لديه يتوفر على 6 موظفين، والذين يشتغلون على العديد من القضايا والاهتمامات، خصوصا وأن النائب الجمهوري كان عضوا في العديد من اللجان في الكونغرس.
كان عملي متنوعا ويشمل العديد من المهام التي تم تكليفي بها. فقد كان المكتب كخلية نحل لا تكف عن العمل والحركة. فكنت أشتغل في العديد من الأشياء: كالإجابة على رسائل ساكنة الدائرة الانتخابية التابعة لعضو الكونغرس، ذلك أن هناك أجوبة معدة سلفا وعليها التوقيع الالكتروني لعضو الكونغرس. فكنت أقوم بعزلها وتصنيفها حسب الموضوع. بعد ذلك يتم تجهيز تلك الرسائل ليأخذها ساعي البريد فيما بعد.
كنت أيضا أقوم بمهام الاستقبال في المكتب عندما تغيب المكلفة بذلك، فكنت أرد على الهاتف وأحول المكالمات وأستقبل ضيوف المكتب، كما كنت أقوم باستقبال البريد الوارد وتقديمه إلى فريق العمل هناك.
كما أنني كنت أساعد في أعمال مكتبية أخرى حسب الطلب والوقت. فمثلا كنت أساعد بصورة كبيرة في الإعداد للحملات التي يقوم بها عضو الكونغرس في دائرته، كما كنت أقوم بإعداد أعمال أخرى لصالح منظمات محلية تسانده، وقد تلقيت رسائل شكر على ذلك.
وكان يحدث أحيانا أن يعجز أحد الموظفين عن الذهاب لحضور إحدى الجلسات، فأذهب أنا بالنيابة عنه أو عنها، أسجل النقاط المهمة وأكتب بها تقريرا أقدمه للموظف المعني بالأمر.
إلا أن أظرف شيء كنت أقوم به القيام بدور المرشد السياحي داخل الكونغرس، فالمعروف أن ساكنة الدائرة الانتخابية لعضو الكونغرس تعلمه بمجيئها لواشنطن حتى يتمكن من استقبالهم في مكتبه وتقديم الشروحات عن عمله وعن القضايا التي تهمهم.
بعد ذلك كنت أقوم بأخذهم في جولة سياحية داخل الكونغرس لأسرد على مسامعهم تاريخ الكونغرس والمحطات المهمة في التاريخ الأمريكي، والقليل من الناس يعلم أنه قد تم إحراق بناية الكونغرس أيام البريطانيين.
ولا يزال أحد الأبواب الداخلية في الكونغرس يحمل أثار تلك الحروق. بالإضافة إلى تقديم بعض التفاصيل المتعلقة ببناية الكونغرس، فمثلا هناك نقطة مركز واشنطن العاصمة، هذه النقطة تقع في قلب بناية الكونغرس جاعلة منه مركز العاصمة، كما أن هناك قبة الكونغرس الممتلئة بروائع الصور المنقوشة والرسومات (قبة الروتاندا).
في حين نجد هناك ممرا طويلا داخل الكونغرس. يكتظ بتماثيل عن كل ولاية. كل تمثال يعكس صورة شخصية فذة أو حاكم لولاية معينة، كما أنني كنت أخذ بعض الوفود في هذه الجولة السياحية متنقلا بهم من بناية لأخرى عبر سراديب تحت الأرض تصل كل مبنى بالأخر.
ولكن ما كان يعجبني أكثر من أي شيء أخر في تلك الجولات السياحية هو القاعة القديمة التي كانت تحتضن جلسات غرفة مجلس النواب، المثير في الأمر هو أن النواب المتواجدين في جزء معين من تلك الغرفة كانوا يتجسسون على زملائهم النواب الآخرين من الحزب المنافس بطريقة ساهمت فيها الطبيعة بجزء كبير، حيث كان بإمكانهم سماع كل كلمة تصدر عن أعضاء الحزب المعارض بدون بذل مجهود أو اللجوء لآليات التجسس، فالهواء كان ينقل جميع الأصوات وحتى الهمس أيضا (الصدى).
وبالتالي كانوا يعرفون، بدون أن يبرحوا أمكنتهم، نقاش الآخرين وخططهم. وكنت بذلك أبهر الزوار بهذا، وأجعلهم يكررون نفس التجربة، وأجعل الآخرين يذهبون إلى المكان الذي كان يجلس فيه الحزب الأخر آنذاك، والذي يبعد بالكثير من الأمتار، ويجعلهم يتعجبون، ويسرون لذلك.
جانب أخر من الأعمال التي كنت أمارسها، كان جرد محتويات المكتب والتكلف باقتناء ما يلزمه من أوراق ومجلدات وأقلام…إلخ. كان لدي بطاقة اقتناء خاصة باسم عضو الكونغرس، وأذهب إلى المتجر الموجود داخل الكونغرس وأشتري بتلك البطاقة ما يلزم. من نفس المتجر، يمكن أيضا شراء الهدايا التذكارية من هناك وخصوصا تلك التي تحمل طابع الكونغرس.
أحد المهام الأخرى التي كنت أقوم بها هو جلب الأعلام الوطنية الأمريكية من مكتب خاص هناك، والتي تم تعليقها قبل ذلك فوق بناية الكونغرس أو فوق البيت الأبيض لمدة معينة،ويتم اقتنائها، بناءا على الطلب من طرف المواطنين الأمريكيين الذين يحصلون عليها. وتسلم لهم بشهادة تثبت أنه تم تعليق ذلك العلم في المكان المطلوب.
كان ذلك و لا يزال مصدر فخر لعموم الأمريكيين بحيث يتسابقون على اقتناء وشراء هذه الأعلام عن طريق الكونغرس.
حدث مرة أن دعاني عضو الكونغرس « Congressman » لمأدبة غذاء داخل الكونغرس في إحدى المطاعم الخاصة هناك وقد كان ذلك تواضعا كبيرا من طرفه.
وتبسط معي في الكلام، وتجاذبنا أطراف الحديث في شتى المواضيع، أحيانا كان يسألني عن وجهة نظرني في مواضيع معينة بحكم إلمامي بها أو بمعرفتي بخباياها بالإضافة إلى هذا كله، كان من بعض واجباتي الأخرى أن أذهب إلى مكاتب أعضاء الكونغرس الآخرين لأحصل على توقيعاتهم على العرائض ومشاريع القوانين التي يزمع عضو الكونغرس على تقديمها في الجلسة.
وقد مكنني هذا النوع من الواجبات أن ألتقي الكثير من النواب والشخصيات الآخرين والذين كنا نراهم فقط على شاشة التلفاز. جلهم متواضع وبسيط جدا في معاملتهم. أحيانا كنت أصادف البعض منهم في المصعد ونتجاذب أطراف الحديث أو نكتفي بالتحية فقط. من الأمور الأخرى التي جذبت انتباهي هو كون جميع العاملين في مكاتب النواب هم شباب في منتصف العشرينيات. بعضهم حديث التخرج، والبعض الأخر كان متدربا ثم صار موظفا كنت أتساءل مع نفسي: هل هؤلاء الشباب هم الذين يتحكمون في مصائر دول وعوالم؟ إن هذا الأمر لعجيب حقا !
ويحصل أيضا أن بعض لجان الكونغرس تعقد جلسة استماع حول قضايا معينة سواء كانت قضايا محلية أو جهوية أو دولية، وعلى سبيل الذكر، عندما كنت هناك تم عقد جلسة حول قضية الصحراء وحقوق الإنسان حضرها جمهور غفير من كلا الجانبين من أطراف النزاع بالإضافة إلى مراقبين ومهتمين دوليين، كما أن ممثلين عن اللوبيات كانوا أيضا متواجدين هناك إلى جانب بعض الصحراويين الذين قدموا للحضور أو تم استقدامهم لعقد لقاءات مسبقة للجلسة.
وعل ذكر اللوبيات (جماعات الضغط) فإن هذه الشركات / الجماعات تشتغل مقابل أجور مادية ضخمة، وقد كان أن رأيت بأم عيني عملها، وخبرت كيفية اشتغالها أثناء فترة تدريبي في الكونغرس. فهم يعقدون اللقاءات مع عضو الكونغرس أو مع معاونيه سواء في مكتبه أو خارجه، كما أنهم يقارعون الحجة بالحجة، ويقدمون الوثائق والتقارير لتعزيز كلامهم.
البعض منهم يذهب إلى أبعد من ذلك، فيحاولون تقديم رشاوي لأعضاء الكونغرس، عن طريق تقديم الهدايا أو رحلات مدفوعة الثمن وما شابه ذلك من طرق أخرى لا يملون من اختراعها للوصول إلى غايتهم، ولن أتوغل كثيرا في الحديث عن دورهم لأنني قد كتبت سابقا موضوعا عن هذه الجماعات وعن عملهم داخل المؤسسة الأمريكية.
بطبيعة الحال، لقد أهملت تفاصيل كثيرة لم أذكرها لحساسيتها ولطبيعة العمل هناك. كل ما يمكنني قوله أنها كانت تجربة مهمة، وكنت أول صحراوي يعمل هناك بصفة رسمية.
وهذا الأمر كان مصدر فخر لي واعتزاز كبير لأنني حققت أحد أحلامي بالاشتغال هناك، و تمكنت من معرفة عالم الكونغرس الأمريكي. فذلك البدوي القادم من أعماق الصحراء أتيحت له الفرصة لكي جزءا بسيطا من آلية كبيرة.